فى رجب كانت الهجرة الأولى ( 2-3 )
انتهينا فى ختام مقالنا السابق إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى بسبب ازدياد عنف كفار مكة تُجاهَ كل من آمن إلا أنَّ هذه الهجرة كانت أشق وأصعب لأن قريشًا كانت على علمٍ بها ومِن ثمَّ قررت إحباطها، ولكن حركة المسلمين كانت أسرعَ فخرج منهم فى هذا الفوج ثلاثون رجلا وتسعَ عشر امرأة وهيأ الله لهم النجاح، وأمدهم بتأييده وعونه فما صادفوا مشقة ولا وجدوا عُسرًا فى تلك الرحلة المباغتة لأهل مكة الكافرين.
وتلك هى الضريبة التى تدفعها الأسر المؤمنة من نفسها ومالها ووطنها للحفاظ على عقيدتها.
قال ابن هشام ( صاحب السيرة ) : ( فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا صغارًا معهم ثلاثةً وثمانين رجلًا إن كان عمارُ بنُ ياسر فيهم وهو ما يُشك فيه وثمانى عشرة امرأة ).
- أسباب الهجرة إلى الحبشة:
إلى جانب الفرار بالدين، كان لهذه الكوكبة السابقة إلى الهجرة فضلُ السبق فى إيصال الإسلام إلى خارج الجزيرة، والدعوة إليه بعملهم وسلوكهم وبهذا السبق تميزوا عن المهاجرين إلى المدينة.
روى البخارى بسنده عن أبى موسى الأشعرى – رضى الله عنه – قال: ( بَلَغَنَا مبعثُ النبى – صلى الله عليه وسلم – ونحن باليمن فخرحنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لى أنا أصغرهم، أخدهما أبو بُردة، والثانى أبو رَهْم فى ثلاثةٍ وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومى، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشى ( أى إلى الحبشة ) فوافقنا جعفرَ بن أبى طالب حتى قدمنا جميعًا إلى النبى – صلى الله عليه وسلم – حين افتتح خيبر).
وفى البخارى أيضًا قول جعفر لأبى موسى: ( إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعثنا هنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا )، وقول جعفر هذا لأبى موسى يوضح سببًا من أسباب الهجرة إلى الحبشة وهو الدعوة لهذا الدين ( وممن يذهب إلى ذلك محمد عزة دروزة، د. سلمان العودة ).
وهناك رأى مهم قاله أحد العلماء ينضاف إلى ما سبق خلاصته أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يبحث عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدةٍ تحمى هذه العقيدة، وتكفل لها الحرية ويُتاح لها فى هذه الأرض أن تتخلص من هذا التجميد الذى انتهت إليه الدعوة فى مكة حيث تظفر بحرية الدعوة وحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة.
وهذا فى تقديرى كان هذا هو السبب الأول والأهم للهجرة للآتى:
- نحن إذا نظرنا إلى الذين هاجروا إلى الحبشة لم نجد بينهم موالى مستضعفين ممن كانوا يٌعذَّبون فى مكة كبلال وخبَّاب بن الأَرَت وغيرهما، إنما هاجر رجال ذوو عصبية ومكانة.
- لم نعلم أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد بعث فى طلب مهاجرةِ الحبشة حتى مضت الهجرة إلى يثرب، وبدر وأحد والخندق والحديبية.
لقد بقيت يثرب معرضةً لاجتياح كاسح من قريش خمس سنوات وكان آخرها هذا الهجوم والاجتياح فى الخندق.
وحين اطمأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى أن المدينة قد أصبحت قاعدة آمنة للمسلمين، وانتهى خطر اجتياحها من المشركين، عندئذٍ بعث فى طلب المهاجرين من الحبشة ولم تعد هناك ضرورة لهذه القاعدة الاحتياطية التى كان من الممكن أن يلجأ إليها الرسول – صلى الله عليه وسلم – لو سقطت المدينة فى يد العدو.
وهنا تتجلى حكمة الرسول – صلى الله عليه وسلم – السياسية والمستقبلية لعقيدة التوحيد وحياطتها ورعايتها.
ولكن هل ترك كفار مكة مهاجرى الحبشة فى حالهم أم حاولوا مطاردتهم ؟
وإلى لقاء لنكمل ما ابتدأناه فى أمر الهجرة الأولى إلى الحبشة