فى رجب كانت الهجرة الأولى ( 3-3 )
بهذا المقال نختم القول فى الهجرة الأولى إلى الحبشة، وكنا انتهينا فى المقال السابق إلى هذا السؤال:
هل ترك كفار مكة مهاجرى الحبشة فى حالهم أم حاولوا مطاردتهم ؟
وللإجابة عن هذا نقول وبالله التوفيق:
لقد أحسَّت قريش أن تركَ باب الهجرة مفتوحًا للمسلمين خطرٌ على كيانها، فهؤلاء اللاجئون سيُكَوِّنون فى أرض المهجر الحبشى ( جاليةً ) كبيرة بل قوةً خطيرةً يُعمَلُ حسابها وربما أثرت فعادت إلى مكة قوية بالمال والسلاح وربما تكسَب قضية الإسلام أنصارًا جددًا، وأصدقاء محايدين، وستكون لذلك آثارٌ سياسيةٌ بعيدة المدى يَعظُم بها أمر محمد – صلى الله عليه وسلم – وأتباعه.
لذلك قررت قريش الملاحقة والمطاردة ، ورأت قريش أن ترسل رجلين جلدين إلى النجاشى لكى يُرجعوا هؤلاء المؤمنين إلى مكة، وبالتالى يفعلون بهم ما يشاءون فأرسلت مكة ( عبدالله بن أبى ربيعة و عمرو بن العاص )، وجمعت قريش لهما هدايا ضخمة للنجاشى وبطارقته.
وقالا للنجاشى بعد تقديم الهدايا: ( أيها الملك إنه قد أتى إلى بلدك منا غلمانٌ سفهاء فارقوا دين آبائهم وقومهم "ولم يدخلوا فى دينك" ( لاحظ الخبث ) وجاءوا بدينٍ ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بَعَثَنَا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعرف بشأنهم ).
وهذا المنطق أعجب بطارقة النجاشى - فهم قد أخذوا الرشوة - حيث قالوا للنجاشى: ( نعم قومهم أعلم بهم فلندعهم لأقوامهم، ولا نقحم أنفسنا فى قضية لا مصلحة لنا فيها).
فماذا فعل النجاشى؟
اقتضت حكمته وعدلُه ألا يُصدر حكمًا حتى يعرف رأى الفريق الآخر فأرسل إليهم ليدلوا بحجتهم أمامه، فلما قدم وفد المسلمين قال لهم النجاشى: ( ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم؟ فقدَّمَ الوفد المسلم جعفر بن أبى طالب ليتكلم عنهم فقال: أيها الملك كُنَّا قومًا أهلَ جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتى الفواحش ونقطع الأرحام حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته فدعانا إلى الله لنعبده ونوحده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الأرحام وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فأمره النجاشى بأن يتلوا شيئا من القرآن فتلا جعفر أوائل سورة مريم ﴿ قال تعالى: كٓهيعٓصٓ (1) ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُۥ زَكَرِيَّآ (2) إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيّٗا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا (4) وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا (5) ﴾ فبكى النجاشى وبطارقته فقال النجاشى: إن هذا واللهِ والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاةٍ واحدة ثم قال لعبد الله بن أبى ربيعة وعمرو بن العاص: انطلقا فوالله لا أُسلمهم إليكم أبدًا.
ذهب عمرو بن العاص ليُلقى آخر سهم فى كنانة دهائه، فذهب إلى النجاشى وقال له: اسألهم ما يقولون فى عيسى ؟ فأرسل إليهم النجاشى فاجتمع المسلمون وقالوا ما نقول؟ فقالوا نقولُ فيه ما قاله الله وما جاء به نبينا، فقال جعفر للنجاشى: نقول فيه الذى جاء به نبينا هو عبدالله ورسوله وروحُه وكلمتُه ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فضرب النجاشى يده فى الأرض فأخذ منها عودًا ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلتَ، فنَخَرَت بطارقته فقال النجاشى وإن نَخَرْتُم "نَخَرَت أى تكلموا بغضب"، ثم قال لجعفر ومن معه: اذهبوا فأنتم سُيوم بأرضى ( أى آمنون )، ثم وجه كلامه لعمرو بن العاص، وعبدالله بن أبى ربيعه: ردوا عليهما هداياهما فوالله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد علىّ مُلكى ( وكان ملكه قد رجع إليه ) فآخذ الرشوة فيه.
قال ابن اسحاق: فخرج عبدالله بن أبى ربيعة وعمرو بن العاص مقبوحَيْنِ مردودًا عليهما.
نتائج فشل سفارة قريش إلى النجاشى:
لما عاد عمرو بن العاص وصاحبه عبدالله بن أبى ربيعة إلى مكة خائبين ورأت قريش أن الإسلام يفشو ويزيد ائتمروا فى أن يكتبوا بينهم كتابًا يتعاقدون فيه على مقاطعة بنى هاشم وبنى المطلب ولا ينحكوا إليهم ولا يبيعوهم ولا يبتاعون منهم شيئًا فكتبوا بذلك صحيفة وتعاهدوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة فى جوف الكعبة.
فضل مهاجرى الحبشة:
حين قدم مهاجروا الحبشة إلى المدينة المنورة بعد فتح خيبر حدث أن ناسًا من المهاجرين ( من مكة للمدينة ) قالوا لبعض مهاجرى الحبشة ( سبقناكم بالهجرة ) وهذا ما حكاه أبو موسى الأشعرى – رضة الله عنه – ( وهذا عند البخارى ) ويتابع أبو موسى، ودخلت أسماء بنت عُميس – وهى ممن قدم معنا على حفصة زوجة النبى – صلى الله عليه وسلم – زائرةً وقد كانت هاجرت إلى النجاشى فيمن هاجر، فدخل عمر بن الخطاب على حفصة ابنتهِ وأسماء عندها فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه ؟ قالت حفصة: أسماءُ بنت عُميس، قال عمر: الحبشية هذه؟ قالت أسماء: نعم، فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحقُّ برسول الله – صلى الله عليه وسلم – منكم فغضبت أسماء وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا فى دار أو فى أرض البُعداء وذلك فى ذمة الله وفى رسوله – صلى الله عليه وسلم – و ايم الله لا أطعمُ طعامًا، ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ذلك للنبى – صلى الله عليه وسلم – وأسأله واللهِ لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد عليه.
فلما جاء النبى – صلى الله عليه وسلم – قالت" يا نبى الله إن عمر قال كذا وكذا قال – صلى الله عليه وسلم -وبماذا رددت عليه؟ قالت: قلت كذا وكذا، قال – صلى الله عليه وسلم-: ليس بأحق بى منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم – أهل السفينة -هجرتان، قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتون أرسالًا يسألون عن هذا الحديث، ما من الدنيا شئٌ هم به أفرح ولا أعظمُ فى أنفسهم مما قال لهم النبى – صلى الله عليه وسلم – قال أبو بَرْدَةَ: قالت أسماء فلقد رأيتُ أبا موسى وإنه ليستعيدُ هذا الحديث منى.
فرحة النبى – صلى الله عليه وسلم – برجوع مهاجرى الحبشة إلى المدينة:
عندما نزلوا بالمدينة قام الحبيب المحبوب – صلى الله عليه وسلم – يُرحب بعودتهم، ويعلنُ فرحه بهم، وذلك فيما يرويه الحاكم عن جابر بن عبدالله – رضى الله عنهما – قال: لما قدم جعفر بن أبى طالب من أرض الحبشة قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ما أدرى بأيُّهما أفرحُ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر.
فرضى الله عن مهاجرى الحبشة وأرضاهم جزاء ما قدموا لدينهم وعقيدتهم.